شُّرفَة على دماوند

وجه آخر مع الأدب الأفغانيّ.

 

كنت في صغري محبة لمعرفة العوالم والبلدان، فكان كل شيء عبارة عن لغز أبحث وراءه بلا كلل حتى أجد غايتي وأتحرر منه لأجد شيئًا جديدًا للبحث والاطلاع عنه. أفغانستان كانت بالنسبة لي لغز، بلد بعيد متخفي بينَ رماده متحصن بينَ جباله، فلا يستطيع أحد أن يتملكها أو يأخذها.

وعندما كنت اسأل جارتنا الأفغانية عن بلدها فترد قائلةً:« ما الفائدة من بلدٍ لا يوجد فيه غير الفقر، أرض رماد من كثر حروبها وصراعاتها لا يأتي من خلفها أي خير.» ظلت كلماتها تذهب وتعود كلما جاءت أفغانستان في بالي. أعود بضبابيتي المتشكلة عنها مع رواية (عندما قتلوا موسى) لأتوقف قليلاً فكأنما فضولي الطفولي ما زال يركض نحوها، ولكن ذلك الفضول ما لبث وأن تحطمَ في النهاية.

تبدأ روايتنا الأفغانية بموسى الطفل الذي ولد بإعاقة في قدميه وبسبب هذه الإعاقة عاش طوال حياته زاحفًا مثل دودة. عندما ولد بتلك الإعاقة حاولت عائلته من أجل علاجه ولكن بلا فائدة، فقرروا بعدها عدم إنجاب أطفال آخرين؛ لأن مصيرهم سيكون مثله. عاش موسى في قرية تدعى زرسنك في قلب وادٍ ضيق، بها عدة ينابع تحيط بهم هضبتا جبلين كان اسمهما الجبل الأسود والآخر الفضي. كما كان هناك جدول كبير يجري في ذلك الوادي يدعى ملك الجداول.
موسى الذي كانت تلك الأرض جزء منه، متلاصق بها، فيداه بمثابة أرجله يسير زاحفاً عليها، فهو لا يرى العالم من الأعلى فقد تعودَ أن يرى كلَّ شيء من الأسفل، فذلك العالم الذي كان في الأعلى سحقه منذ زمن بعيد. أصبح أيقونة للنحس مرات، وفي مرات وجه للخير!، وضاع بينهما سنين طويلة.

توفى والد موسى في حادث مؤسف حينما انهارت عليه الثلوج من أعالي الجبال، ليصبح بعدها يتيمًا ووحيدًا مع والدته سلطانة مما زاد من ثقل الحياة عليه، فأخذ يصارع الحياة حاملاً خلفه شوالاً يسحبه مرات كان يحمل الأوراق والحشائش، ومرات يعمل مع والدته في مزارع الإقطاعيين. في يوم ما تغير حاله مصادفة عندما سمع عن تجارة عظام الموتى، فأخذ شواله مع مرور الزمن يصدر طقطقة واصطكاك العظام ببعضها حتى أصبح عمله نبَّاش للقبور ليلاً، وفي النهار يزحف على يديه يبيع ما أخذه خلسةً في الظلام دون أن يشعرَ بالذنب. لم يلاحظه أحد قط رغم انتشار شائعة بأن هناك حيوان ينبش القبور، ولم يكونوا يعلمون بأن من يزحف تحت أقدامهم هو ذلك النبَّاش.

ذات مرة سمع موسى من عمه هذا: «عندما لا تكون عظام موتاك في مكان ما، فهذا يعني أنه لا يوجد لك أصل في ذلك المكان». شعر لوهلة بأن ما فعله في قريته كان مثل طمس لأصل وهوية أهالي زرسنك وأن ما فعله جرم وعليه أن لا يعود لذلك وأن يتخلى عن بيعه للعظام.

في يوم خريفي وهو عائد متخفف من ذنبه فقد أعلن توبته. يومها كان يحمل على عاتقه كلَّ الأحلام المتعلقة بساقيه وحلم علاجه لها أخذته النشوة حتى سرقتها رصاص طالبان ليسقط شوال أحلامه فارغًا بقربه وسط دمائه في وادي أولنك.

كانوا أهالي القرية على رأس قبره يرددون:«سوف يحشر في الآخرة برجلين سليمتين» . اختفى بعد موته قصة نبَّاش القبور وأصبح قبر موسى الشهيد مزار لأهالي القرية والقرى المجاورة يحفونه بالنذور والصلوات أما عن موسى مواساته الوحيدة بأنه دفن بالقرب من محبوبته مونس.

لم يكن موسى في هذه الرواية سوى وجه آخر لأفغانستان جسدها بتفاصيلها وصراعاتها وكل حروبها وفقرها ويأسها الطويل تحت صخرة طالبان. فتأتي هذه الأغنية التراثية التي ذكرت في الرواية واختلطت بها مشاعر موسى لأتحرر معها، وأعود من جديد لأبحث عن ضياع ودمار أفغانستان.
يا مولاي قد ضاق قلبي، إن زجاج قلبي يا رب، صار تحت ظل صخرة》*

__________________________

* لسماع أغنية《 يا مولا دلم تنگ اومده》بترجمة: سينا حسيني.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top